الحكمة من نسبة الصيام إلى الله دون بقية العبادت!! للدكتور خالد بدير
الحكمة من نسبة الصيام إلى الله دون بقية العبادت!! ( رائع ومن أجمل ما كتبت ) ============================================
نعلم جميعاً أن العبادات كلها لله، قال تعالى: ” قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ” ( الأنعام : 162، 163) فإذا كانت حياتنا كلها لله فلماذا خص الله الصوم لنفسه وأضاف بقية الأعمال لنا؟!! فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهُ: ” كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ”(متفق عليه)
وإنه من الواجب علينا أن نبحث وندقق حول العلة التي من أجلها خص الله الصيام لنفسه دون بقية العبادات، وقد ذكر العلماء فى ذلك أقوالاً كثيرةً أرجعتها إلى ستة أوجه تتلخص فيما يلي:-
الوجه الأول : أن الصيام لا رياء فيه لأنه سر بين العبد وربه
فالصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره ، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب ، ويؤيد هذا التأويل قوله : ” ليس في الصيام رياء “( شعب الإيمان للبيهقي) وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات ، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى عن الناس، وقد جاءت آياتٌ وأحاديث كثيرة تبين دخول الرياء في كثيرٍ من الأعمال كالجهاد والحج الصدقة وقراءة القرآن وغيرها بخلاف الصيام. قال القرطبي : لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه ، ولهذا قال في الحديث ” يدع شهوته من أجلي ” وقال ابن الجوزي : جميع العبادات تظهر بفعلها وقل أن يسلم ما يظهر من شوب ، بخلاف الصوم . فالله اختصَّ لنفسه الصوم من بين سائرِ الأعمال ، وذلك لِشرفِهِ عنده ، ومحبَّتهِ له ، وظهور الإِخلاصِ له سبحانه فيه ، لأنه سِرٌّ بَيْن العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله ، فإِن الصائمَ يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّناً منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام ، فلا يتناولُهُ ؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يطَّلع عليه في خلوتِه ، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك ، فيترُكُه لله خوفاً من عقابه ، ورغبةً في ثوابه ، فمن أجل ذلك شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ ، واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ ولهذا قال : ( يَدعُ شهوتَه وطعامَه من أجْلي ).
والمعنى على هذا الوجه: كل عمل ابن آدم له بكل حظوظه وشهواته إلا الصوم فإنه خاصٌ بي لا يناله شئ من حظ النفس وشهواتها.
الوجه الثاني: أن الله انفرد بعلم مقدار ثوابه
أن المراد بقوله ” وأنا أجزي به ” : أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس ، فأضافَ الجزاءَ إلى نفسه الكريمةِ ؛ لأنَّ الأعمالَ الصالحةَ يضاعفُ أجرها بالْعَدد ، الحسنةُ بعَشْرِ أمثالها إلى سَبْعِمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةٍ ، أمَّا الصَّوم فإِنَّ اللهَ أضافَ الجزاءَ عليه إلى نفسه من غير اعتبَار عَددٍ ، وهُوَ سبحانه أكرَمُ الأكرمين وأجوَدُ الأجودين ، والعطيَّةُ بقدر مُعْطيها ، فيكُونُ أجرُ الصائمِ عظيماً كثيراً بِلا حساب، والصيامُ صبْرٌ على طاعةِ الله ، وصبرٌ عن مَحارِم الله ، وصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ والنَّفْسِ ، فَقَدِ اجْتمعتْ فيه أنْواعُ الصبر الثلاثةُ ، وَتحقَّقَ أن يكون الصائمُ من الصابِرِين . وقَدْ قَالَ الله تَعالى : ” إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ” (الزمر : 10) قال القرطبي : معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله ، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير ، لأن الكريم إذا قال : أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه. ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الشريف عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله : « الأعمال عند الله سبعة : عملان موجبان ، وعملان بأمثالهما ، وعمل بعشرة أمثاله ، وعمل بسبعمائة ، وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل ، فأما الموجبان : فمن لقي الله يعبده مخلصا لا يشرك به شيئا وجبت له الجنة ، ومن لقي الله قد أشرك به وجبت له النار ، ومن عمل سيئة جزي بمثلها ، ومن عمل حسنة جزي عشراً ، ومن أنفق ماله في سبيل الله ضعفت له نفقته الدرهم بسبعمائة ، والدينار بسبعمائة دينار ، والصيام لله عز وجل ، لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل »( ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة) وللأمانة العلمية إذا كان بعض العلماء ضعف طرق هذا الحديث فإنه صحيح من ناحية مدلوله الشرعي، لأن كل عملٍ من هذه الأعمال السبعة وجزاؤه قد جاء في آيةٍ من كتاب ربنا أو حديثٍ صحيحٍ صريحٍ من سنة نبينا وأنت بذلك خبيرٌ . والمعنى على هذا الوجه: كل أعمال ابن آدم له قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله ، إلا الصيام فإني أثيب عليه بغير تقدير ، فأنا أتولى الإعطاء بنفسي، وفي ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه.
الوجه الثالث: أن الإضافة إضافة تشريف وتعظيم
في قوله ” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي ” ، إضافة الصوم إلى الله إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله، قال ابن المنير : التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف. ولو نزلنا إلى أرض الواقع لوجدنا أن الإنسان يفخر بحسبه ونسبه أنه ابن الرئيس فلان أو الوزير فلان، أو كُرِّمَ من فلان وصُوِّرَ في ألبومٍ أو فيديو مع فلان، وهذا مخلوقٌ مثلك فما بالك لو كان هذا الشرف وهذه الإضافة لله جل في علاه!!!! والمعنى على هذا الوجه: كل عمل ابن آدم مضافٌ له ومنسوبٌ إليه، إلا الصوم فإنه لشرفه وفضله من بين سائر العبادات مضافٌ لي ومنسوبٌ إليَّ وأنا أجزي به.
الوجه الرابع : أن الصوم من صفات الرب والملائكة فالإنسان مخلوقٌ من جسدٍ وروحٍ ، وغذاء الجسد من جنس ما خلق منه وهو الأرض والطين ، وغذاء الروح من جنس ما خلقت منه في الملأ الأعلى ” فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي “( الحجر: 29 )، فالصائم لا يطعم ، والله تعالى وصف نفسه فقال: ” وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ “( الأنعام : 14)،وحينما يمتنع الإنسان عن غذاء الجسد – الذي يشترك فيه مع باقي دواب الأرض – فإنه في هذه الحال – أعني حالة صيامه – يكون قد حمل صفةً من صفات الرب والملائكة ، لأن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب جل جلاله ، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه . وقال القرطبي : معناه أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق ، كأنه يقول إن الصائم يتقرب إليَّ بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي، فكأن الصائم اتصف بصفة من صفات الله تعالى على قدر ما يليق من البشرية ، وكماله لله على استحقاق الربوبية ، كما أن العالم منا والكريم والرحيم متصف بصفة يستحقها الله ، وللعبد فيها نسبة على قدر البشرية ، ألا ترى أنك تقول فلان رحيم وفلان كريم وفلان بصير ………وهكذا ، فلما كان كذلك يجوز أن يكون خصوص الإضافة إلى نفسه في الصوم المشترك بين العبد وربه وملائكته. والمعنى على هذا الوجه: كل أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفاتي، وكأنه يقول: إن الصائم يتقرب إليَّ بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي، فأنا أجزي به.
الوجه الخامس : أن الصيام لم يعبد به أحدٌ غير الله فالصوم لا يدخله شرك بخلاف سائر الأعمال كالصلاة والصدقة والطواف والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة، فإن المشركين يقدمونها لمعبوداتهم، وكذلك الدعاء والخوف والرجاء فإن كثيرًا من المشركين يتقربون إلى الأصنام ومعبوداتهم بهذه الأشياء بخلاف الصوم ، فما ذكر أن المشركين كانوا يصومون لأوثانهم ولمعبوداتهم، فالصوم إنما هو خاص لله عز وجل. والمعنى على هذا الوجه: كل أعمال العباد عَبَدَ وتَقَرَّبَ بها العباد لغير الله إلا الصيام فإنه لي لم يعبد به غيري فأنا أجزي به.
الوجه السادس: أن الصوم لا مقاصة فيه ومعنى ذلك أن الإنسان يأتي يوم القيامة ومعه حسنات كالجبال ، ولكنه عليه مظالم تستغرق كل حسناته، فجميع العبادات توفى منها مظالم العباد إلا الصيام، فالاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال ، ومن أحسن ما قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله قال : هذا من أجود الأحاديث وأحكمها : ” إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ، و يؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيتحمل الله عز و جل ما بقي عليه من المظالم و يدخله بالصوم الجنة “( أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وسننه الكبرى) فالصيام لله عز و جل ولا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز وجل، فالصوم لا يسقط ثوابه بمقاصة ولا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ” أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ”( أخرجه مسلم) فظاهره أن الصيام مشترك مع بقية الأعمال في ذلك، ولكن الأحاديث الصريحة خصصت الصيام من ذلك، فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : ” كل العمل كفارة إلا الصوم ، الصوم لي وأنا أجزي به “( مجمع الزوائد ، للهيثمي ، وقال: رجاله رجال الصحيح.) والمعنى على هذا الوجه: كل عمل العبد ملك له يتصرف فيه في المظالم والكفارات والمقاصة وغيرها ، إلا الصوم فإنه ملك لي ، أتحمل مظالم العبد كرماً مني وشرفاً للصوم، وأدخر الصوم لعبدي يدخل به جنتي. فهذه أوجه ستةٌ في إضافة الصوم لله وخصوصيته به، والناظر في هذه الأوجه الست يجد أنها كلها مجتمعة في الصوم ، لأنه لا تعارض بينها، فهي اختلاف تنوع وتوجيه وتفسير ، لا اختلاف تضاد.
والدرس المستفاد من ذلك الذي يجب تطبيقه على أرض الواقع هو المسارعة والمسابقة إلى اغتنام رمضان لما فيه من الخير العظيم والثواب الجزيل الذي أعده الله للصائم ولم يطلع عليه أحدٌ إلا الله، ويحضرني في ذلك حديثٌ شريفٌ يبين رفعة الصوم وفضله على جميع العبادات. فعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: ” أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ”( صحيح الترغيب والترهيب، الألباني)
فالذي تأخر سنة صام شهراً واحداً من رمضان زيادة على صاحبه جعله سابقاً إلى الجنة قبل الشهيد، فحرىٌّ بك يا عبد الله أن تغتنم هذا الشهر وأنت على عتبة وداعه، فكم من رمضان مضى عليك وأنت غافل، وهذا الصحابي سبق الشهيد برمضان واحد وأنت مضى وسيأتى عليك رمضاناتٌ كثيرةٌ فماذا أنت فاعلٌ؟!!!
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية د / خالد بدير بدوي